داعية على أبواب الجنة
لعبٌ .. لهوٌ .. زينةٌ .. تفاخرٌ .. تكاثرٌ .. متاعٌ .. متاع الغرور .
تلك هي أوصاف الدنيا بتعبير القرآن الكريم ، كأنها وسائل للأطفال ، يمرحون فيها بلعب ولهو الطفولة ، ويتزينون فيها بلباسهم وألوانهم الطفولية ، حيث يتفاخرون مع بعضهم البعض ، ويعرضون أنفسهم ومتاعهم بكل غرور ، ومعهم في ذلك اللعب واللهو ، كل غافل عن الدار الآخرة ، غير آبه بمصيره ، ولا هو بمستعد له ، طفل في عقله ، لأنه لا يعي حقيقة الأمر
خيرٌ للذين يتقون .. يريدها الله .. نعم دار المتقين .. دار القرار .
وهذه بعض أوصاف الآخرة في القرآن كذلك ، وربطها الله تعالى بالعقل في أكثر من موضوع ؛ ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) الأنعام : 32 ، ( وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) الأعراف : 169 ، ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) يوسف : 109 . لأن العاقل لا ينشغل بأعمال الطفولة العارضة ، ويفكر بما يريده الله ؛ ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) الأنفال : 67 . الله عزيز حكيم ، فكن عزيزا حكيما في مرادك ، وفي معرفة حقيقة الأمرين ، دار متاع قليل ، ودار هي الحيوان ـ الحياة الحقيقة ـ ونعم الدار لمن أتقى .
وليس أمر العزة والحكمة بالهين ، ولا ينال بالتمني ؛ ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ) النساء : 123 ، بل لابد له من تعب ؛ ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت : 69 ، وبهذا فقط يرث الدار الحقيقة ؛ ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ) مريم : 63 ، ولابد أن يعي مريد العزة والحكمة نداء النبي عليه الصلاة والسلام ؛ ( مَنْ خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا سلعة الله الجنة ) رواه الترمذي . لابد أن يعي هذا الغلاء في مطلبه ، ولن ينال الأطفال إلا شيئا يسيرا لا قيمة له ، وغلاء السعر يكون لمن وعى وفقه ، وارتفع عن عشوائية الطفولة وخاف ونصب واقترب .
يتعب كما تعب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وتفطرت قدما من طول صلاة القيام ، بل وربما يتفطر قلبه وكل كيانه شوقا للدار الآخرة ، غير مغتر بهذا التفطر الذي قد يصيبه ، ظانا أنه ضمن مكانا لرجله في الجنان ؛ ففي البخاري ومسلم ( ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى . قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته ) .
فلا غرور بالعمل ، بل تعب وزيادة شوق إلى تلك الجنان العالية ، هذا هو التفاوت الحق ، والتفاضل الضخم ، والسبق السبق لمت أراد وصول الدرب .
يحدو ويترنم راقصا بقبله :
وأخو البصائر حاضرٌ متيقظ ** متفرد عن زمرة العميان
يسمو إلى ذاك الرفيع الأرفع ال ** أعلى وخلى اللعب للصبيان
ويزيد تعبه ونصبه وشوقه وترنمه ، غير مصاب بزكام أهل الدنيا ؛ الذين يحجب عنهم ريح الجنة ، متذكرا لأنس بن النضر حين قال لسعد بن معاذ رضوان الله عليهما ( واهاً لريح الجنة !! أجده دون أُحد ) " 1 " ، يردد في نفسه مقولة أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز : ( البخيل كلّ البخيل منَ بخل عن نفسه بالجنة ) " 2 " .
ويفكر في نهايته وكيف يدخلها ، ومن أي طريق ؟ ويأتيه حديث أبي هريرة في الصحيحين ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أنفق زوجين في سبيل الله من ماله دعي من أبواب الجنة ، وللجنة ثمانية أبواب فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام . فقال أبو بكر : والله ما على أحد من ضرر دعي من أيها دعي ، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال : نعم , وأرجو أن تكون منهم ) .
ما أعلى همة أبي بكر الصديق ، يفكر في الدخول منها جميعا !! ، لكن ! من أين يدخل الداعية ؟ هل من باب الصلاة ؟ أم الصوم ؟ أم الجهاد ؟ أم غيرها !!
قال ابن حجر في الفتح ( أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها ؛ لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها ، بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات ) " 3 " .
وقال أيضا رحمه الله ( في الحديث ذكر أربعة أبواب من أبواب الجنة ... وبقي من الأركان الحج فله باب بلا شك ، وأما الثلاثة الأخرى فمنها : باب الكاظمين الغيظ العافين عن الناس رواه أحمد ، ومنها الباب الأيمن وهو باب المتوكلين الذي يدخل منه من لا حساب عليه ولا عذاب ، وأما الثالث فلعله باب الذكر فإن عند الترمذي ما يومئ إليه ، ويحتمل أن يكون باب العلم والله أعلم ) " 3 " .
فالمقصود هو كثرة التطوعات في هذه الأعمال ـ الصلاة والصوم وغيرها ـ بحسب كل عبادة يدخل المرء من بابها في الجنة ، وليس المقصود القيام بما فرض عليه فقط ، وهذا المعنى يقدح في ذهن الداعية سؤالا :
ما هو المفتاح الذي بيدي لأدخل منه بابا من أبواب الجنة ؟
هل أنا متميز في صلاتي وتطوعي فيها ، خاشع مكثر مقبل قائم متبتل ؟ هل أنا ممن يصوم الصوم الكثير الخفي ؟ أم هو رمضان وبضع أيام متفرقة ؟ هل أنا مكثر الصدقات ومن أهلها عند الله ؟ أم أنني من أهل الجهاد ومكتوب كذلك عند الله ؟ أم من باب العلم وطلبه ؟؟ أو اللسان الرطب والقلب الندي بذكر الله !!
حدد من أين تريد أن تدخل ، وجهّز مفتاحك معك ، وارسم من الآن لحظات وقوفك على تلك الأبواب ، وتخيل نفسك ، من أي باب سوف ينادى عليك !!
إن التعميم في علاقتنا مع الله تعالى ، وعدم معرفة تخصصنا العبادي ، الذي عبّر عنه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث بقوله ( فمن كان من أهل الصلاة ، فمن كان من أهل الجهاد ) هذا التعبير النبوي يدل على تخصص ، وإبداع من صاحبه فيه ، حتى يكون من أهله ، إن التعميم الذي قد يعيشه المؤمن في علاقته مع الله تعالى تعميم يحرم المرء من أن ينسب لأهل الصلاة أو الجهاد أو العلم أو الذكر ، ويعيش المرء سنوات طويلة في الإسلام والالتزام به ، من غير أن يعرف تخصصه هذا ، ولا يستعد للجنان وأبوابها الثمانية بأي مفتاح تعب فيه في الحياة الدنيا ، إن هذا التعميم يحرم المرء من هذا النسب ، ويجعله في مصاف العوام .
وإذا كان التطوير اليوم أمسى دندنة الكثير من الدعاة ، فإن التطوير التخصصي العبادي جزء لابد أن يكون ضمن هذه الدندنة ، بل سابق لها ، فهي دندنة النبي صلى الله عليه وسلم وكل النبيين من قبله عليهم الصلاة والسلام ، لا أن نهتم بالتطوير الإداري ونعطي الداعية مفاتيح للتعامل مع نفسه ، ومفاتيح للتعامل مع الآخرين ، ومفاتيح للتعامل مع المجتمع ، ونهمل مفاتيح التعامل مع أبواب الجنة !!
فاصنع أخي مفتاحك واتعب فيه ، وتفنن في أسنانه ، وزد وتنفل واقترب وانصب ، واعرف باباك ، تنل مرادك ، وتيقن أن الله موفقك ، فدق الباب من الآن وكن الملحاح النجيب ، أو كن أنت كأبي بكر الصديق وأجمع المفاتيح واغنم بدخولك معه الأبواب الثمانية .