ياسين .. والقرآن الحكيم
أ. عبد الحميد الكبتى
الحديث عن الشيخ ياسين حديث يطرب له القلب ويخاف ؛ يطرب لأنه سوف يصوغ من حناياه كلمات في هذا الرجل العظيم الفذ ، ويخاف إذ المستوى عال والسقف مرتفع ، غير أن ذاك الطرب يغلب رجاء في رحمة الله وشفاعة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام .
ياسين : عنوان للانطلاقة الذاتية في أول الطريق ، ومهما كانت الخطوب .
ياسين : رمز للقيادة الخاصة والعامة ، للرجال وصناعتهم ، وللأطفال وحرصهم ، وللنساء وتميزهن.
ياسين : صانع أول للحياة بكل معاني الكلمة ، وما جسده المشلول إلا برهان على علو في الهمة يندر أن نقرأ عنها في وقتنا ، لا أن نجد مثلها ، ورحمة الله بأمته كبيرة .
ياسين : رجل هائم في كتاب الله ، لا يتركه لا يهجره لا يبتعد عنه ، فهو زاده وحله وترحاله .
في كل الدنيا المسلمة اليوم احترام وافتخار بهذا الرجل المميز ، عنوان الثبات ، ورمز العطاء ، وصانع الرجال ، المتعلق بكتاب الله ، لا نجد بلدا مسلما إلا وذكره فيه عاطر ، واسمه فيه لامع ، حتى بات أهل ليبيا يذكرونه في أغاني الأفراح ، وفي سمر الشباب وغناوي عجائزنا .
وفي القرآن الكريم : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } . الغريب أن لفظ { فرحين } لم يرد إلا في هذا الموضع من القرآن الكريم ، كأن الفرح الحقيقي هو هذا فقط .
يقول الأستاذ سيد : » قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتاً بل أحياء . أحياءٌ عند ربهم يرزقون ; لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها , فهم متأثرون بها , مؤثرون فيها , والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة « .
سبحان الله ! ، مؤثرون فيها ، متأثرون بها ..
مؤثرون فيها من خلال شهادتهم وتحريك النفوس بهذه المواقف ، على مستوى الأفراد وعلى مستوى المؤسسة الدعوية ، بل وعلى مستوى الأمة !
متأثرون بها ! كيف ؟ من خلال متابعة نفس الطريق ، والثبات عليه ، وعدم التفريط فيه ، فإن حياة الشهيد ترفل في النعيم ، وتتمنى أن ننال مثل ما رزقت ؛ فعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هذه الآيات { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } وما بعدها ) . راجع تفسير ابن كثير
ثم يقول الأستاذ سيد قطب : » إنها تعديل كامل لمفهوم الموت - متى كان في سبيل الله - وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم , وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم . وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها , بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة , كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة . وحيث تستقر في مجال فسيح عريض , لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة , ومن حياة إلى حياة ! « .
هذا التعديل في المفاهيم يحتاج إلى وعي لها وبها ، وحرص عليه ، وثبات لا يتزحزح أبدا ، فما قيمة تغيير مفهوم الحياة الحق لرجل عابث متشبث بالدنيا ، أو لفتى لا يعرف إلا اللهو والكسل مادته الأولى ، إن موت القادة الشهداء حياة لهم ، وحياة للقلوب ، وحياة في ضمير الأمة .
ثم في نفس سياق السورة يرد معنى الفرح لدى الكفار ، بصورة أخرى مرتكسة ، لا تعي حقيقة المعنى الرباني في موت الشهيد . قال تعالى : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ آل عمران:120] .
إن ظنوا أن قتل القادة هو سيئة ففرحوا بها ، فهي عندنا منقبة ، وحسنة ، تسؤهم ، يخفون حقيقة هذا الشعور ، ويظهروا لنا أنها سيئة مؤلمة لنا ، لكننا نثبت على معنى الحياة الحق ، فقد قال تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } نصبر على تصحيح معنى الحياة ، ونصبر على فقد القادة ، ونصبر على ترويجهم الإعلامي الظالم ، ونتقي ! ، فلن يضرنا كيدهم شيئا ؛ لأن الله ربنا محيط بما يعملون ، عالم بحالنا وحال من صعد ، وحال من أخلد إلى الأرض .
قتل ياسين وارتفع للسماء بعد كل الجهود التي بذلها ، وترك أمامه ـ وليس خلفه ـ قادة رجال ، وشبابا همام ، وأمة كاملة ينبض بها اليوم شعبنا في فلسطين ، وأسس حركة حماس المباركة ، التي كما قال الأستاذ الراشد :
( حماس حلقةُ شرف برّاقة في سلسلة وراثة النبوة ذات الحديد )
إن حركة ارتفع قادتها إلى السماء ، لهي حركة عالية موفقة ، ولهي حركة يحبها الله ويصطفي منها رجالها ، وللداعية أن يقارنها بغيرها من الدعوات والحركات التي نبتت الطحالب في أجسام قادتها من الجلوس على الكراسي والمرتفعات الدنيوية ! ، حية هي تلك الحركة التي يموت رجالها بالشهادة ، وحية هي تلك الحركة التي ينبض فيها كل عرق ، وحية هي تلك الحركة التي تقتل الأقوال بالأفعال ، وحي هو ذلك الأخ الذي يتربى في معينها ، وحية هي حماس ما دامت تردد وتلتزم ( عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) .