هل يمكننا فك حصار غزة؟.
- نعم.
- ولَمَ لا نفعل؟.
- هذا هو السؤال اللغز.
في الإجابة فالأولوية هي للقول بأن ما يجري ضد غزة الصامدة ليس فقط "نمطا من الحصار"، وإنما هو أحد أشكال الحرب. الحرب الاقتصادية هي التعبير الأدق من تعبير حصار غزة، ذلك أن ما يجري هو حرب اقتصادية والحصار هو أحد أشكالها، وهي تشمل ممارسات وأشكالا أخرى، منها تدمير كل قطاعات الاقتصاد في غزة من خلال تخريب الزراعة وقصف المصانع القائمة ومحطات توليد الطاقة واستنزاف مصادر المياه الجوفية المستخدمة في الزراعة، وكذا منها منع حركة التصدير والاستيراد ووقف مختلف الإنشاءات في مختلف أنحاء القطاع، مع الإرباك المنظم لدورة الاقتصاد وفروعه المختلفة من خلال وقف النشاط المصرفي بين الداخل والخارج. ولتلك الحرب الاقتصادية أبعادها الاجتماعية والصحية والإنسانية، وهي تستهدف جعل "القطاع" جاهزاً "لهجوم" عسكري. ولتوضيح المقصود، فإن الحرب الاقتصادية الجارية ضد غزة هي ذاتها الحرب الاقتصادية التي جرت ضد العراق، وكانت على طولها هي التمهيد لاحتلال العراق. والفارق في حالة غزة هو أننا أمام قطاع سكاني "لم يستقل" في حياته الاقتصادية عن المحتل، إذ هو استقل سياسياً، بينما ظل مرتبطاً في تسيير دورة اقتصاده بالمحتل باعتباره المسيطر على المعابر التي هي شريان وصول وتصدير السلع، أو باعتباره هو مصدر مرور إمدادات الطاقة، أو عن طريق التحكم الإسرائيلي في جمع الضرائب على المعابر (الأفراد والسلع)، أو من خلال السيطرة على حركة المال من داخل وخارج الأرض الفلسطينية، أو من خلال ربط الاقتصاد في غزة "بالعملة" الإسرائيلية وحركتها هبوطاً وصعوداً مع الدولار.
كما يجب فهم أبعاد الحرب الاقتصادية على الاقتصاد الفلسطيني باعتبارها جارية منذ بداية تشكيل وإعلان إسرائيل، سواء ضد الفلسطينيين الذي بقوا في أرضهم ولم يغادروها، وهم يعانون من التهميش الاقتصادي ومنع تطور أعمالهم، أو ضد الفلسطينيين في الضفة من خلال الاستيلاء على الأراضي الزراعية بضمها إلى داخل حدود الأرض المحتلة في عام 1948 ، أو من خلال اقتلاع الأشجار الزراعية أو الاستيلاء على مصادر المياه.. إلخ.
وفي ذلك فإن هذا الفهم أو هذا الانتقال من الكلام عن حصار غزة إلى إدراك أن ما يجري هو حرب اقتصادية موازية للحرب العسكرية والسياسية والإعلامية، هو ما يطرح جانباً فكرة أن وصول حماس إلى الحكم بعد الانتخابات التشريعية - التي جرت في يناير 2006 -، هو ما سبب هذا الذي يجري من خنق اقتصادي واجتماعي لأهلنا في القطاع خاصة وفلسطين عامة، ذلك أننا أمام حرب اقتصادية بمستويات متعددة، كانت قائمة قبل وصول حماس إلى تشكيل الحكومة - وبلغت حداً استشهد فيه الرئيس عرفات "حصاراً" - وكان من أهم مظاهر اعتمادها من قبل القيادة الإسرائيلية هو الإصرار خلال مفاوضات أوسلو على "الإمساك" والسيطرة على المعابر من الأردن إلى الضفة الغربية ومن مصر إلى غزة، ثم القيام بقصف المطار الفلسطيني في غزة في أول أعمال العدوان بعد إعادة احتلال المدن السابق الانسحاب منها وفق اتفاق أوسلو، وكذلك تشديد الحصار البحري حول غزة ومنع الصيادين من ممارسة نشاطهم، والإصرار على ربط الاقتصاد الفلسطيني بالعملة الإسرائيلية (الشيكل).. إلخ.
أما الحصار كأحد مظاهر الحرب الاقتصادية، وإذ تغيرت أو تصاعدت درجته بعد وصول حماس للسلطة، فإن ذلك يأتي ضمن الجوهر في خطة الحرب الاقتصادية، التي كانت واضحة لدى المخطط الإسرائيلي الذي ضمن أوسلو كل الخطوط والقواعد التي تمنع قيام اقتصاد فلسطيني "مستقل"، وعليه فقد تلخص كل الجهد الدولي في الجانب الاقتصادي من أوسلو، في تقديم المعونات (رواتب الموظفين - معونات الأونروا.. إلخ)، أو في تقديم الخدمات التعليمية..، مع عدم تقديم أي عون يدفع الاقتصاد الفلسطيني نحو الاعتماد على نفسه أو بما يجعله قادراً على الاستقلال عن الاقتصاد الإسرائيلي. بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن هذا النمط من التعامل مع الاقتصاد الفلسطيني دولياً، لم يكن بعيداً عن الرؤية الإسرائيلية التي استهدفت إبقاء الاقتصاد الفلسطيني في حالة تبعية مستمرة للاقتصاد الإسرائيلي سواء على مستوى الاستهلاك للسلع الإسرائيلية أو على صعيد الارتباط بالعملة الإسرائيلية أو على صعيد إمداد الشعب الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي بالعمالة الرخيصة، إذ إسرائيل أدركت أن قيام اقتصاد فلسطيني مستقل هو الأساس في قيام دولة مستقلة، حيث لا استقلال سياسيا حقيقيا دون استقلال اقتصادي.
هل نقدر؟
والمشكلة التي نواجهها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً في مسألة الحرب الاقتصادية على غزة والضفة بطبيعة الحال، ليست فقط أن النتائج الجارية لأهلنا في القطاع خاصة، هي نتائج كارثية لا يمكن لأي ضمير إنساني القبول بها، وإنما أيضاً لأن بإمكاننا تقليل آثارها إن لم نقل أن بإمكاننا خلخلة هذا الحصار، لكننا لا نفعل!.
إن المراجع للاوضاع في المنطقة يصل الى استنتاج مبسط وواضح للجميع، مفاده، ان النظم العربية وان لم تحقق تطورا في قوتها فعلياً باضافة عناصر وعوامل جديدة لها، فانها بسبب ضعف الآخرين اصبحت قادرة على الفعل وعلى تحقيق بعض من الاهداف، تصل الى ما هو ابعد من الحفاظ على استقرار اوضاع الحكم في المجتمعات العربية.
لقد جرت فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق كئيبة ومقلقة ومؤثرة، إذ كان الضغط الأمريكي والإسرائيلي فيها شاملاً لمعظم الدول العربية وفي مختلف المجالات. كان الضغط مكثفاً على الحكومات وأجهزة الدول، التي طرحت عليها شروطاً قاسية على صعيد ممارساتها الداخلية مع شعوبها وعلى صعيد القوانين والنظم وعلى صعيد الثقافة والهوية، كما شمل الضغط تأليباً للرأي العام ضد الحكومات. وفي ذلك كان نزول القوات الأمريكية على الأرض العربية وإطاحة نظام الحكم في العراق ثم محاكمة الرئيس صدام وإعدامه، إشارة خطرة وذات دلالات لا يمكن لأحد تجاهلها.
وفي تلك المرحلة، كانت إسرائيل في حالة زهو بقوتها وقدرتها، وكانت تهديداتها تطلق في كل اتجاه وبلا مواربة، أما أعمالها في الضفة وغزة وضد الرئيس الشهيد عرفات فكانت مؤشرات فهم مغزاها الجميع.
كما في تلك المرحلة، كانت جماهير الشعوب في حالة فوران في اتجاهات متعارضة ومتضاربة، كما القوى السياسية كانت في حالة من الارتباك والاضطراب في خياراتها واختياراتها، إذ بعضها لم يجد غضاضة في أن يستثمر الضغوط الخارجية على الحكومات العربية لتحقيق مكاسب داخلية.
لكن كل هذه الأوضاع تغيرت أو بالدقة أن قوة الخصوم وضغطهم قد تراجعا بما جعل الأوضاع على صعيد تلك القوة وذاك الضغط تنقلب، إذ أصبحت الولايات المتحدة وإسرائيل هما من يطلب ود الحكومات ومن يعمل على استقرار النظم والحكومات، كما جرى التوقف تماماً عن لعبة تحريض الشعوب ضد الحكومات.
الشواهد على ذلك عديدة، إذ أوقفت الولايات المتحدة دعمها للعناصر الموالية لها في داخل المجتمعات العربية، كما مسؤولوها توقفوا عن المطالبة في تصريحاتهم بفرض الديمقراطية على طريقتهم - لتحقيق أهدافهم لا لتحقيق الديمقراطية- ولم يعودوا يهددون بالمعونات، ومن قبل توقفت التصريحات المهددة والمخوفة من غزو محتمل لهذا البلد أو ذاك. ثم أن الولايات المتحدة عادت إلى لعبة "إعادة التوجيه"، فباتت تعمل على جمع الموقف العربي حولها في مواجهة إيران.
عاد الفضل في ذلك إلى دور المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان والصومال، ولكل منها دور ودلالات في إفشال الخطط الأمريكية والإسرائيلية.
المقاومة العراقية أفشلت لعبة التخويف العسكري أمريكياً، إذ هي أثبتت أن القوة العسكرية الأمريكية قابلة للهزيمة، عطلت قدرتها على شن حرب أخرى في المنطقة، ومن ثم هي من أنهى التهديدات العسكرية الأمريكية باجتياح واحتلال دول أخرى.
وكانت المقاومة اللبنانية هي من وجه ضربة استراتيجية للقدرة العسكرية الإسرائيلية، بل هي من جعل إسرائيل في حالة دفاع لمرحلة ليست قصيرة وفي حالة مراجعة لإمكانياتها في أية مواجهة إذا اندلعت.
وكانت المقاومة الفلسطينية هي من أنهك الخطط الإسرائيلية والأمريكية في القضاء على المقاومة، كما هي من أوقف التلاعب الأمريكي بمسألة الديمقراطية، إذ أن نجاح حماس في الوصول إلى تشكيل الحكومة الفلسطينية من خلال الانتخابات هو من أنقذ الحكومات من الضغط الأمريكي عليها بهذا الشأن!.
أما المقاومة الصومالية، فهي من أنهى خطة الولايات المتحدة في الاستعانة بقوة إقليمية مرتبطة بها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، إذ هي أنهكت إثيوبيا وباتت تعرضها وهي أهم حليف إقليمي للولايات المتحدة في القرن الإفريقي لفقدان القدرة الاستراتيجية على الفعل، بما أضعف وأنهك خطة القرن الإفريقي الكبير، بنفس ما فعلت المقاومات في العراق ولبنان وفلسطين بخطة الشرق الأوسط الكبير.
لماذا لا نتحرك؟
في ظل هذه الأوضاع بات بإمكان النظام الرسمي العربي أن يتحرك إيجابياً على صعيد مساندة من كانوا السبب في تغيير الأوضاع والتوازنات، ليس بمنطق رد الجميل، وإنما بخطة لتثبيت التوازنات عند هذا الوضع الأفضل، وتطويرها إن أمكن مع إدراك خطورة "ترك الشعوب" بلا حرية في التعبير أوعلى حالها في الفقر. أو كان بالإمكان ألا يستجيب النظام الرسمي العربي للمطالب الأمريكية والإسرائيلية بالتعاون معها، بعد أن باتت تواجه إيران القطب الصاعد بسبب تنميته لقوته وبفضل إضعاف أمريكا للآخرين - الذين أعاقوا تقدمه وقوته (العراق - أفغانستان) - إلا بتحقيق قدر من مطالبها.
وكان بإمكان النظام الرسمي العربي أن يعيد استخدام قوة الشعوب التي لعبت بها أو عليها الضغوط الأمريكية، من خلال إعادة توجيهها للضغط على الولايات المتحدة بدلاً من الضغط عليها، لتحسين أوضاع الشعب الفلسطيني.. أو ليست فلسطين هي القضية المركزية؟!.
أو كان بإمكان النظام الرسمي العربي، أن ينتهز الفرصة، حينما تحولت الأمور من أحاديث وتصريحات إلى عقد مؤتمر "أنابوليس"، بأن يطلب فك الحصار على غزة أو تخفيفه او خلخلته قبل الذهاب وحضور المؤتمر.
كان الذهاب العربي الى المؤتمر، بهذا العدد والتمثيل والرمزية يسمح بتحقيق طلب تخفيف الحصار على غزة أولاً، ان لم نقل انه كان قادراً على فعل ما هو اكثر.
لكن شيئاً لم يحدث؟!.
وهذا هو اللغز المحير.
فعباس قدم خلافه مع حماس على خلافة مع اولمرت. وهو لم ير ان الاولوية هي مسؤوليته عن «شعبه» الذي يموت جوعاً في غزة، ومن بينه كوادر فتح في غزة!.
ومعظم الدول التي شاركت - بعيداً عن الضجيج - لم تر ان واجبها على كل المستويات هو ان تضغط من اجل اطفال غزة وشيوخها، وفي ذلك قدم البعض مصالح ضيقة على مصالح شعب يقتل ويموت بلا دولاء.
وكأن من كان مضغوطاً عليهم، استراحوا لاستقرارهم، وأغلقوا عيونهم مرتاحين فلم يروا وقائع الحرب الاقتصادية الشاملة الجارية. والمشكلة أن أعيننا جميعاً ستفتح مضطرة حين نصحو على وقائع الاضطراب الشامل في غزة، إذا بدأت القوات الإسرائيلية "هجومها الشامل" هناك.
هذا الكلام منقول عن موقع