منقول عن طارق بن محمد الحسين
أعلم أن الموضوع طؤيل بعض الشيء لكنه يستحق القراءة (( للأحرار فقط ))
إذا رأيت في هذه الحياة أمة لا تطبق الشورى في حياتها ولا تراها فريضة وفضيلة وضرورة فاعلم أنها أمة تسير إلى الهاوية.
استبد فرعون بقومه فاستخفهم فهلكوا وأغرقوا معه لما أطاعوه ولو كانوا يملكون أمرهم ما استخفهم إلى الهلاك من الأصل وما خرجوا معه، وكان شعاره (مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ).
لما تراءى الجمعان في يوم بدر كان مشعل أوار الحرب ومسعرها أبو جهل حيث استبد فيها برأيه إلى أبعد مدى فأرسل لهم أبو سفيان أن ارجعوا فقد سلمت العير فأبى وحاول عتبة بن ربيعة بكل ما يستطيع أن يرد أبا جهل عن القتال فعيره أبو جهل وقبح قوله فأورد المشركين من قريش بئس القرار.
وبالمقابل ما كانت عليه بلقيس ملكة سبأ رضي الله عنها لما جاءتها رسالة سليمان جمعت رجال دولتها وطلبت منهم المشورة (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ).
فكان عاقبتها الحسنى هي وقومها وكان أمرها إلى سداد وانتهى بها الأمر إلى أن أسلمت هي وقومها وبشر سليمان عليه السلام بإسلامهم: (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).
وليس شرطاً أن تكون الجاهلية الأولى قائمة على الاستبداد بل كانت تنعم في بعض جوانبها بأعلى أساليب الشورى ذلك لأن العرب في الجاهلية يأبون العبودية ويأنفون من التبعية فكان قادتهم يراعون هذا الجانب النفسي المقدس عند أتباعهم وهذه عادة النفوس الحرة وإن كانت على الباطل وهي عند الحق أولى وأعظم إباءً، والغريب أن هذه كانت صفة عند العرب لا يتصف بها إلا هم لاسيما عرب الصحراء الذين خرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما سائر البشر في العالم كله فقل أن يعرف منهم أحد يعيش خارج دائرة الاستبداد، فالروم والفرس والأحباش والأقباط وسائر الممالك كانت تعاني عقدة الرأي الأوحد الذي لا يقبل الخلاف. والعجيب أن هذه الظاهرة انتقلت إلى العرب بعد نهاية الخلافة الراشدة ثم في نهاية المطاف أصبح العرب عنوان الاستعباد وحاملي نفسية الطغيان وغيرهم عاد مصدر الشورى والديموقراطية.
ولا ننكر أن الجاهليين كانوا أهل طغيان فردي أكثر منه جماعي أما في ممارساتهم الجماعية والقيادة فكانوا على درجة من الشورى لا تنكر، بل إن أعداء الأنبياء انطلقوا في عدائهم من منطلق شوري جماعي وهذا واضح جداً في كتاب الله عز وجل وقل أن يفعلوا فعلاً أو يقدموا على تصرف غير جماعي، وقد أخبر الله عنهم في كثير من الآيات بصيغة الجمع وهذا دليل على تآزرهم وتكاتفهم وطاعتهم لبعضهم وهذا خارج عن الحديث بصيغة الجمع عن ظاهرة أو أخرى وردت في القرآن وإنما القصد هو الحديث عن الشورى عند الجاهليين أو أعداء الأنبياء في أحيانٍ كثيرة، قال: سبحانه وتعالى عن بعض مواقف بني إسرائيل مع موسى عليه السلام ((قَالُوا يَا مُوسَى إنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إنِّي لا أَمْلِكُ إلاَّ نَفْسِي وأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وبَيْنَ القَوْمِ الفَاسِقِينَ)). وفي الآية التي قبلها ((قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكُمْ غَالِبُونَ وعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)). وإن بني إسرائيل مجمعون شبه إجماع إلى درجة أن موسى لا يملك أمر أحد سوى أخيه هارون ولم يعارض سوى رجلين منهم. وهذا على سبيل المثال فقط و إلا فمواقفهم كثيرة مخزية.
(وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً شَيَاطِينَ الإنسِ والْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً) وقال عز وجل: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا). وكل الأنبياء الذين كذبوا جاءت سيرة المكذبين بالجمع (قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)، (وتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ). وعن قوم صالح (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ.....) وهكذا.
بل انظر إلى إخوة يوسف عليه السلام وإن كانوا مسلمين إلا أنهم لما أضمروا الشر وهموا بفعله كانوا يعملون بالشورى ونفذوا فعلهم تحت مظلة شورية فصلها القرآن الكريم في سورة يوسف. حتى امرأة العزيز في نفس السورة لم تستغن عن الشورى في مراودتها ليوسف عليه السلام فجمعت النساء ودبرت معهن الكيد. وعن إبراهيم عليه السلام (قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ (69) وأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ). ومن العجيب أن فرعون برغم ادعائه للألوهية لم يستغن عن الشورى فاستشار السحرة قائلاً (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) ولكنها حالة استثنائية وفي موضع آخر عن قوم صالح (وكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ولا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وإنَّا لَصَادِقُونَ (49) ومَكَرُوا مَكْراً ومَكَرْنَا مَكْراً وهُمْ لا يَشْعُرُونَ). ولعلك تجد في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه ومع سائر أعدائه من اليهود والمنافقين ما تظهر به الشورى بارزة في حياة الجاهليين وأعداء الأنبياء والرسالات.
وهذه الشورى الشريرة عانى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه في مكة إذ كان غالباً ما يجتمع رأي كبارهم على أكثر الأفعال التي آذت الحبيب صلى الله عليه وسلم والسيرة مليئة بهذا حتى في جانب المناظرات والتهدئة السلمية بينهم وبينه. وحين حاصروا المسلمين في شعب أبي طالب كانت بعهد وميثاق علقت صحيفة في الكعبة، وعندما أرادوا قتله جاءوا بأعظم وأخطر خطة ممكنة تدل على ثقافتهم الشورية حين اختاروا مائة شاب لقتل النبي صلى الله عليه وسلم (وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ). وقال: الله عنهم (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وأَسَرُّوا النَّجْوَى الَذِينَ ظَلَمُوا).
ومعركة بدر التي أصيب المشركون فيها كانت تفتقر إلى الشورى وهي بعكس أحد والأحزاب التي انطلقت من مجلس الشورى الموسع للمشركين وهذا من أسباب قوة هاتين المعركتين إذ جاء العدو مستجمعاً كل أفكاره الفاعلة.
أردت من إثبات ذلك أمرين مهمين جداً :
الأمر الأول :
هو أن الشورى لسيت فضيلة أو عملاً صالحاً فحسب، بل إنها ضرورة لا تصح الحياة إلا بها، ولا يستقيم شيء بدونها إلا أن يكون وحياً من الله تبارك وتعالى، جاء في القرآن أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يستغني عن الشورى لا مسلم ولا مشرك ولا كتابي ولا ملحد ولا جن ولا إنس.
وكل من عاش بلا شورى رأينا كيف ذهب بنفسه وبقومه إلى الهلاك والفشل الذريع، والذين هلكوا مع الشورى إنما هلكوا بكفرهم وصدهم عن الله، وكانوا أشد فتكاً وأقوى عزيمة من الكافر الذي لا يعمل بالشورى.
الأمر الثاني :
ومع الأسف المرير فإن عدداً من الإسلاميين لم يـبلغوا في ثقافتهم الشورية المستوى الذي بلغه مشركوا مكة أو العرب البائدة الذين حاربوا أنبياءهم أو غيرهم ممن مضى عليهم آلاف السنين، ولا ينكر هذا إلا مكابر أو صاحب غرض أو جاهل في أقل أحواله.
ولا شك أن نخباً من الإسلاميين في العالم وصلوا إلى مرحلة لا بأس بها من الشورى وهم الذين خلعوا من تصوراتهم الكهنوتية الإسلامية وعقدة الرجل الواحد التي خيمت على عقول كثير من المتأثرين بالمناهج المتشددة أو المستعلية.
ولكن أقواماً لا يزالون في غيبوبة الأوهام الشورية، كالذي يطلب الشورى من أتباع لا يعترفون في الأصل إلا بعقله المستشير ورأيه وهيمنته. أو كالذي يستشير أتباعه بعد إنفاذ القرار، أو من يطلب الشورى كي يقنع المستشارين برأيه تحت ضغط الحياء أو غير الحياء أحياناً، أو الذي يستشير عدداً محدوداً دون تفويض من القطاع الواسع من الموظفين أو العمال أو غيرهم خوفاً من دخول رأيه في صريح النقد الذي لا تقبله إلا النفوس الكبيرة.
لقد كان الوحي يتوقف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتقرر هذا المبدأ عملياً بعد أن تقرر نظرياً في قوله سبحانه (وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) و قوله عز وجل (وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وكل يعلم كيف استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه في بدر واستشارهم في الخندق وفي الصلح مع غطفان على شطر ثمار المدينة وفي غيرها، ولو شاء الله لجعل ذلك كله في إطار المأمور به وحياً وإيجاباً ولكنه سبحانه أراد من نبيه أن يعلم المسلمين الشورى على الطريقة العلمية لا كما يفعل بعض المتصدرين باسم الدعوة يطنطن بالشورى وقد ألغاها من حياته العلمية. وأستغرب من الذين ينادون أنظمة الحكم بالشورى وهم استبداديون لا يؤمن جانبهم بل قد فضحهم الميدان وكشف حقيقة ادعائهم.
ولأن الشورى من أكبر دعائم النصر فإن الله نهر عن التنازع الذي هو سبب الفشل وذهاب الريح.
إن القائد الذي يعمل بالشورى ينقذ نفسه في الدنيا من ملامة الناس إذا ما حدث فشل أو لم يتحقق المقصود من هذه الشورى، ومن لوم نفسه وندمه، وينقذ نفسه في الآخرة عندما يقف بين يدي الله ضعيفاً مسؤولاً.
والقائد الذي لا يعمل بالشورى إنما ينشيء جيلاً من الأقزام مهما بلغت مواهبهم، ومهما كثرت أعدادهم والأمة بحاجة إلى عمالقة لا أقزام وإلى أحرار لا مستعبدين، لا زال هناك أقوام من الإسلاميين يرددون الخلاف: هل الشورى ملزمة أو معلمة؟ وهذا جيل لا زال يعاني من عقدة الكهنوتية ومن رواسب النفوس المستعبدة أما الأحرار فلا يرددون مثل هذا الحكم أو الخلاف فيه لأن الشورى إن لم تكن ملزمة بالأغلبية فلا شورى حينئذ، ولقد ألزم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بالشورى ما لم تكن وحياً من الله فكيف بمن جاء بعده أو كيف بمن هو دونه؟ لا أحد يخاف من الشورى وهو يثق بنفسه أو معطياته إنما يرفضها أهل الأغراض والأهواء، ومن العيب أن تتخذ لك أتباعاً لا تراهم أهلاً لإبداء الرأي أو إسداء نصيحة أو مشورة، فماذا يراد بالأتباع إذن؟
وبما تفخر الصحوة إذا لم يكن خلف قياداتها إلا قطعان من الغنم تسوقها أين شاءت وكيف شاءت؟
من الناس من يرى الشورى قضية مسلمة وهذا ما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم، حيث كان الخلفاء لا يقبلون من الناس أن يكونوا عبيداً بل يأمرونهم أن يقولوا كلمتهم ويعبروا عن آرائهم ويطالبوا بما يرونه حقاً.
ومن الناس من يرى الشورى جريمة وهذا ما كان عليه فرعون الذي استشار السحرة لما كانوا في صفه واحتاج إليهم فلما آمنوا برب موسى قال: (آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) ثم قتلهم.
فالناس لا يخرجون عن هذين المثلين إما مع أصحاب رسول الله وإما مع فرعون.[/b]