بقلم رشيد ثابت
لا أقصد في هذا العنوان قمة دمشق بعينها؛ بل أقصد كل مؤسسة "القمة العربية" وكل دورات انعقادها، وقمة دمشق تقدم دون شك صورةً صارخةً ومثالاً قويًّا على فشل النظام الرسمي العربي في كل شيء؛ بما في ذلك الفشل في الظهور بمظهر الدول المحترمة ذات المؤسسات المحترمة. فالدول العتيدة التي قررت مقاطعة القمة عبرت عن ذلك – إذا ما استثنينا "إمبراطورية" 14 آذار– بإرسال مندوب الدولة المعنية لدى جامعة الدول العربية ممثلاً لها في دمشق. وهكذا أكدت الدول العربية على أنها دول "فاشلة" لا تشبه ما لدى خلق الله من دول؛ ففي هذا السلوك إقرار بأن المزارع العربية هي إقطاعيات حصرية لجلالة الحاكم الذي سيأكله الدود؛ ويشركه في ذلك رئيس الحكومة الحقيقي والمسؤول التنفيذي الفعلي والذي هو بطبيعة الحال مدير المخابرات وليس أحمد نظيف ومن هم في رتبته (مع عدم حفظ الألقاب)... وأثبت هذا الإجراء أن كل الوزراء والسفراء والخبراء والمدراء العامين والمستشارين في الدول العربية هم حفنة من ديكور تسديد الخانات ليس أكثر؛ ممن يمكن استخدامهم في إهانة الآخرين عن طريق تعيينهم رسلاً لهم! فإن قال قائل أن خفض مستوى التمثيل عادة دبلوماسية يُعمل بها خارج البلاد التي تأكل الفول والفلافل و"التميس" وليس على القوم حرج في استعمال تلك الآلية الحضارية للتعبير عن موقف سياسي نرد بأن شقيق الملك في "بلد عربي مركزي ومقاطع" ووالد عدد من وزراء الوزارات السيادية – وربما هو شخصيًّا يمتلك وزارة سيادية لكنني بصراحة لست متأكدًا لأن أسماء مسؤولي ذلك البلد يشبه بعضُها بعضًا لأسباب معروفة – أكد أن مستوى التمثيل هو قرار خاص بجلالة "ولي الأمر"! ولذلك أنا أميل إلى أن الإجراء هو سلوك "بدوي" ولا يمت لبروتوكولات الأمم المتحضرة بصلة! تمامًا يعني كما كانت قبيلة عربية تتعمد إهانةَ قبيلةٍ أخرى عن طريق إرسال نذيرٍ لها من الصبية أو المجانين أو نحو ذلك!
والذي يؤكد إحساسنا بالخيبة هو أن هذه المواقف "الحَرْدانة" ليست نابعةً من قرارٍ وطني. والله العظيم لو أن لدى مصر الدولة سببًا مصريًّا 100% لمكايدة سوريا لأمكن تفهم الموقف وتُرِكَ القوم يَرْكَنُونَ إلى عقولهم؛ ولن نقول لهم حينها أن عليهم أن يعطوا إخوانهم في سوريا ولو عشر البشاشة ولين الجانب الذي يبدو منهم نحو "أمهم الغولة" أمريكا. لكن الذي "يفقع مرارة" الحر هو أن هذا الغضب أمريكيٌّ 100%؛ ولو أن الحال تبدلت أمريكيًّا لقلبت هذه الدول الغضبى مواقفها كما يُقلب الجورب. هل هناك شك في أنه لو فاز الديمقراطيون في انتخابات الرئاسة الأمريكية؛ وقرر الحمار الديمقراطي (هذه ليست شتيمة بل هذا هو رمز الحزب العتيد) أن يعالج بالرفق ما عالجه الفيل الجمهوري بالحمق والخرق (أيضا الفيل شعار هؤلاء) وقرَّرَ تبعًا لذلك محاولة إحياء مسار السلام السوري "الإسرائيلي" - هل هناك شك في أن مصر المقاطِعة ستخف حينها لممارسة دور الوسيط؟ وسيذهب ساعتئذٍ كلٌّ من "نظيف" و"الوسخ بتاع تكسير الأرجل" وعمر سليمان وحتى مبارك نفسه – لو ساعدته صحته – إلى سوريا؟ وسنرى حينها مبارك يشيد باللحمة العربية – لُحمة بضم اللام وليس تلك التي منها مادة الكفتة والكباب – وضرورة التنسيق العربي المشترك وربما سيأخذه الحماس وهو عند سلم الطائرة ويغني للشام مثل فيروز وفريد؟!
أهنيء "أمريكا" على هذه القدرة العالية على سَوْقِ كل هذا السبي من مخربي قمة دمشق من المتمحكين بغياب لبنان؛ وأهنيء لبنان على هذه المحبة العارمة في قلوب الزعامات العربية. طبعًا هم يبررون عدم الذهاب لدمشق بالحرص على لبنان؛ ولكن ليس أي لبنان. إنه لبنان حلف مال الحريري مع الباطنيين وصنائع "نابليون" وكلِّ غازٍ فِرِنجيٍّ...إنه لبنان السياحة الفجورية التي ملأت جيوب وأرصدة سفاحي دماء الفلسطينيين والمسلمين والمستضعفين في لبنان؛ وليس لبنان المقاومة والشعب الحر الأبي!
وكأن فريق الرابع عشر من آذار الذي يعج بالقتلة والسفاحين والعملاء والمأجورين ومشريي الذمة ويساريي الأمس من محافظي اليوم الجدد – كأن هذا الفريق لا ينقصه سوء السمعة وانحلاق الكرامة لينضم لهم أحد أُجراء السبي البابلي في فلسطين ويعلن أن حماس والجهاد والمقاومة تطلق الصواريخ خدمةً لسوريا ولتعطيها المبرر لتقديم الملف الفلسطيني على ملف لبنان! هل سمعتم بهذه الأعجوبة من قبل؟ الفلسطينيُّ الوطنيُّ الحقُّ يفترض به أن لا يعبأ: احترق العالم كله أم سَلِم ما دامت بلاده تحت الضرب والذبح والقصف! لكنَّ خُدَّام "إستير" هؤلاء لا كرامة لهم ولا انتماءَ عندهم لأوطانهم؛ وما شاءت أمريكا فسوف يغنونه ويثغون به دون كلل أو ملل؛ وليغب ملف فلسطين عن القمة. ولا غرابة؛ فهؤلاء صاروا الآن في نفس السلة مع القوات وجنبلاط وساء أولئك رفيقا! (تنويه: ابن قباطية – هو من عملها غير الصالح - ولأسباب تاريخية وجغرافية سيهتف للحرية و"الاستكلال" وليس "الإستئليل"...وشكرًا لسعة صدور معالي آل جميِّل)
لكن لعل القوم معذورون في مقاطعة القمة بسبب رفض سوريا حسم ملف الرئاسة في لبنان؛ فتأخرُ ملءِ مقعد الرئاسة كل هذا الوقت يثبت أمرًا خطيرًا وفكرةً هدَّامةً عابرةً للحدود؛ وهي أن الرؤساء والملوك والأمراء العرب هم أقل مكونات النظام العربي فائدة ومنفعة. وإن كان صعبًا على زقاقٍ عربيٍّ أن يستغني عن صاحب الدكان أو "معلم الفول والحمص" في محلَّةٍ ما؛ فقد أثبت المثال اللبناني أن بالإمكان التخلص من "رئيسٍ" عربيٍّ دون أن يشعر بأهميته أحد؛ تمامًا كوضع المدراء الكبار في شركة "ميكروسوفت" في تلك النكتة عن أكلة لحوم البشر (لم يُلاحِظ أحدٌ في الشركة وجودهم طوال الفترة التي كانوا يختارون فيها ضحاياهم من المدراء...لكن حين أكلوا أول عاملٍ فنيٍّ لوحظ غياب الرجل لأنه بخلاف المدراء الكبار يعمل وينتج ويترك بصمة!)
خلاصة القول أن القمة فاشلة بمن غابوا وبمن حضروا أيضًا من رموز النظام الرسمي العربي؛ بيد أن شيئًَا جميلاً تمخض من بين كل طغام ورغام الجاهلية الرسمية العربية؛ وهذا الشيء هو كلمة "إسماعيل هنية" الموجهة للقمة. ليس عندي أدنى شك في أن الرجل متأكدٌ أن القوم لن يقوموا ولا ببند واحدٍ مما طالب به؛ لكنه وكعادة حماس يمارس دور الدعوة والنصيحة وإقامة الحجة والإعتذار أمام الله والناس. فألقى الرجل الزعيم المنتخب الممثل كلمة عبرت عن كل طموحات شعبه في فلسطين والأمة معًا؛ فدعى قليلي الهمة هؤلاء لنصرة غزة والعمل على فك حصارها؛ وتَذَكَّرَ قضية الفلسطينيين المبعدين من العراق؛ وقضية العدوان على محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ ودعا الأمة لنصرة كل هذه الملفات والانتصار لها.
طبعًا خطاب الشرفاء هذا لا محل له بين كلمات المرجفين وشعارات المنافقين من مستقبلي قِبلة أمريكا؛ لكن لا تحزن أيها المسلم! فالشرفاء هؤلاء هم وارثو الموقف ووارثو المشهد ووارثو الأرض؛ وسيطوي حزب الخير صفحة الخنا والخيانة؛ وستغدو تلك المرحلة المظلمة أثرًا بعد عين؛ وتاريخًا داثرًا حلت محله حقبةُ النصر والعلياء؛ وستلتقط حماس الراية بإذن الله - ومعها كل شرفاء الأمة- مصداقًا لما تلاه "هنية" في كلمته من قوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"!